الدمع البارد
متعبُ أنت ... لاتعرف إلا هذا الشارع ، وهذا المقعد . كقبر متحرك تدفنه في جوفك مع كل هموم الدنيا ، تجلس وحيداً لا يعرفك سوى المقعد واضواء الشارع ... حزيناً تتمنى لو يبتسم بوجهك أحد المّارة .
منذ صغرك وأنت ترسم هذا الشارع زقاقاً مهملاً ، وحيث تجلس يكون المقهى ، والآن تبتلعه الرتابة . يضج الشارع بالألوان ومواكب الزفاف تعبر الشارع طولاً وعرضا ً ، وأنت ملقىً على قارعته على مقعدٍ لا يعرفه الا الفقراء ومن ضاقت بوجهه الدنيا ، كالثمر الذابل لا الام ترميك لتدفن في الأرض حياءً ولا النضارة مرسومة على محياك .
هذه عمان أصغر من أن تحتويك ، هي سفينة عشقك فاضرب في البحر ، وهذا حزنك فقسمه على الفقراء .
عمان تجف تحت شراعك ، يصبح موتك قاب قوسين أو أدنى ... يوزعك الجوع على الأرصفة وتنثر بقاياك الشوارع ويعلمك الحزن الفرار ، فتفر من نفسك الى نفسك ، ومن جوعك الى عطشك ، وتبقى كمن يحشرج للموت .
عمان أصغر من أن تحيي فيك نشوة سكرك ، تعلقك في جدائل أنثى وتتركك رهن الريح تهب اذا ما هبّت وتخمد اذ خمدت كالجسد الميت.
وتسأل نفسك ماذا تريد من عمان الطفولة ، هل ترغب في أغنية تحبل في كل ربيع مولودين اثنين ، أم ترغب في أن تقطع الشارع حبواً وتجمع قطرات الدمع المتساقط في الأزقة وعلى مفترقات الطرق .
لعلك تريد عمان الصبا ؟
هكذا يطل عليك الجواب دونما عناء وكأن رائحة الأنوثة مبتغاك فتتمنى لو أنها تأتي لتجعلها تحوم في دمك كالنورس يحلق قرب شواطئ روحك .
لو أنها تطل يجف الجواب ويبقى معلقاً منتظراَ سنوات العشق ، ويبقى السؤال غربياً " كغربة يوسف في الجب " .
بعد برهة تصحو ... تجد بأنك ما زلت وحيداُ تهذي ، تنظر للشارع فتشعر بأنه يخلعك كالحذاء ويرميك بعيداً في الظل البارد .
من هنا كنت متعطشاً لأن تلبس ربطة عنق وردية ةتجوب الشوارع بعد أن ترخي أزرار جاكيتك الصوفي وتطلق لقوامك العنان ، وتنطلق ... تطير ربطة العنق ... تتوقف لتسويها على عجل، ترمقك الفتيات، لا تنتبه لذلك ، تتابع سيرك ويصبح الشارع ملكك ، وتظل وحيداُ تقطع الشارع ، تختال ببطئ خفايا الشارع ومن ثم تجلس على المقعد الذي يتربع صدر الشارع ... لا تنتبه لمن حولك .
تغمص عينيك ، تأخذ من سيجارتك المشتعلة أبداً نفساً عميقاً ، تنفثها في الهواء تكون كمن يحلق ... تأتيك الصبايا على طبق من نعاس ، وعمان تغني لك أغنية الاقحوان.
تأخذ نفساً اخر ... تٌبقي عينيك مغمضتين ، تحتضن آخر همسة لعمان الطفولة ، ويكبر الحلم يمتد ليحوي الرصيف والمارة والشارع والشجر المتناثر على الطريق ،يحوي الضجيج والهمسات والكلمات الحزينة ، ولكنك تُهزم من جديد فما يلبث حلمك أن يصغر ويصغر ... يصبح لحناً ميتاً حزيناً لهمس انثى تطرق بشدة عتبات حلمك .
تفتح عينيك تجدها أمامك تغلق في وجهك حلم الطريق ، تشعر أنها تمسكك بقوة من شعرك وتمرغه بغبار الشارع وأنت تنظر اليها دوت أن تنبس ببنت شفه ، تحدق فيها طويلاً وتعرف أنها تنتظر الجواب ولكنك لا تقوى على الكلام .
وتعيد عليك السؤال للمرة الـــ ... " أين تقف باصات مخيم البقعة "
ترتبك ... تلتفت حولك وتعود فتضع عينيك في عينيها ، فتشعر بأنها تحرقك حتى القرار فتبكي بصمت ، تنهمر عينيك الجاحظتان ويصبح الشارع لا يتسع لدمعك .
وتسأل مرة اخرى ...
حينها تشعر بأن الطريق يهرب بعيداً فتزرع قدميك في الرصيف خوفاً على عمان أن تفر من تحتهما ... فتومئ لها بأنك لا تعرف .
ينطفئ النهار وتشعل عمان قناديلها ، تظل وحيداً ... بعد قليل تقفل المقاهي أبوابها ولا يبقى سوى المقعد الذي يحتويك ... وماذا بعد ، ما زلت تراقب قناديل الشارع ، تعبت القناديل وما تعبت،
روّح السّمار ، كلهم مروا من أمامك ، البعض يرد التحية والبعض مشغول مع رفيقته بكلام لا تعرفه .
بعد قليل تنتهي آخر همسه لعمان فيغزوك الصمت ، تصبح عمان لزجة كالعرق المتكوم تحت ابطيك ، عندها تنطفئ كما النهار الذي انطفئ منذ قليل ، تصبح حزينا كالصفصاف ، ينهار فيك الدفئ ، تصبح لحن جنازة لصمت الشارع فتكون القاتل والمقتول ، ماذا بعد ؟ ... لم لا تعود ؟.
المسافة عن المخيم عشرون كيلو متراً ، لو سرت على قدميك ستصل منتصف الليل وتجد أمك لم تنم بعد ، تغضب منك عازفة لحن الخوف الأبدي عليك ... وتسألك أين كنت ؟ فتكون غير ملزم بالإجابة ، وتعرف ان لا صاحبة لك ولكنها تداعبك بالسؤال ، مع أي الفتيات كنت ساهرأ حتى الساعة .
تبتسم بحرقة وأنت تحرص ان لا تبكي ، تأتيك بالطعام ، تنظر اليها ، يكون النعاس قد لون تجاعيد وجهها ، وما ان تبدأ بالأكل حتى تتسل حيث تنام وما هي الا لحظات حتى تغط في نوم عميق .
تنظر حولك ... تكون وحيداً من جديد ، تشرب جرعة ماء وتطل من نافذة الغرفة نحو الشارع فتجده موحشا يثقله طنين الصمت ، تمد نظرك الى الأفق وتسأل نفسك :-متى يطلع الصبح يكون السؤال أكبر من عمان الطفولة والصبا أكبر من عتمة الأفق ،
عمان 1998
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق